مقال رائع من روائع الدكتور مصطفى محمود الشريعة - متى وكيف


الشريعة أصبحت مطلبا شعبيا واصبحت موضوعا للمزايدة بين الأحزاب وأصبحت ورقة انتخابية وكل هذا طيب وجميل .. ان الكل يريد ان يعود الى الله والكل يتسابق الى المنهج .. هذا حسن .. ولكن البعض يشعر بالاشفاق .. وهناك اقلام كثيرة تطالب بالوضوح وعندها حق .. فقد اختلف العصر واختلفت أنواع السرقات ويخشى البعض ان تقطع اليد التى تسرق عشرة جنيهات وتعفى اليد التى تختلس المليون جنيه لأن اجتهاد الفقهاء أعفى الاختلاس من الحد باعتباره لا يدخل تحت النص الحرفى لكلمة سرقة كما أن السرقة من مال عام أعفيت هى الأخرى من الحد لوجود شبهة الظلم فى المال الحكومى العام مما يجعل لمن يسرقه شبهة حق فيه .. وبالتالى لا يدخل التزييف والتزوير والرشوة .. كما ان الموظف الذى يتقاضى عمولة قد تصل الى عشرات الملايين كما فعل اليابانى تاناكا فى صفقة طائرات لوكهيد لا يدخل تحت طائلة الحد.

ومعنى ذلك أن اخطر مفهوم للسرقة فى عالمنا العصرى سوف يخرج من نطاق الحد ومن نص الشريعة وسوف يجد اللصوص الكبار ثغرة واسعة يهربون منها بسرقاتهم ولن يقع الا اللصوص الصغار ونشالو الاتوبيس وقد أحسن الزميل احمد بهجت حينما وصف الشريعة بأنها رحمة ووقاية وصيانة ودفاع عن الضعفاء من بطش الأقوياء وأن الحدود ليست الا السياج من الاسلاك الشائكة المضروب حول هذه الخيمة من الرحمة وأن الاسلام لم يأت ليزيد فى عدد أصحاب العاهات وأنه لابد من التدرج ولابد من الانتقال بالمجتمع أولا الى حالة من الكفاية والعدل ولا بد من تيسير الزواج وتسهيل العفة وايقاف هذا السيل العارم من الغواية والاثارة الشهوانية التى تقوم بها الافلام السينمائية قديمها وحديثها وهذا العرى فى الصورة والأغنية والكلمة قبل أن نطالب شبابنا بالعفة والفضيلة .. لابد من أصلاح المناخ الاجتماعى والاعلامى والفنى وقطع دابر الاستغلال الاقتصادى بأنواعه قبل أن نأخذ الناس بالشدة وبالعقاب الغليظ.

ان عمر بن الخطاب لم يقطع يدا فى عام المجاعة والنبى عليه الصلاة والسلام لم يقطع يدا فى الحرب وكلاهما كان يطبق الشريعة لأن كليهما فهم الشريعة بمعناها الحقيقى أنها رحمة .. لقد أجتهد الاثنان فى فهم الشريعة وفى فهم ظروف تطبيقها .. ومطلوب من فقهائنا أن يجتهدوا وأن يحاولوا أن يتفهموا الظروف الجديدة والاشكال الجديدة الخطيرة للسرقة فىعصرنا.أننا نعيش بالفعل فى عصر تاناكا .. وأخطر أنواع السرقة هى الرشوة والعمولة والاختلاس ونهب المال العام فاذا أخرجنا هذه الجرائم من عقوبة الحد اتباعا منا للسلف وتقليدا للمفهوم السلفى فى تفسير كلمة سرقة فانه يكون تقليدا عن عملية واتباعا عن جهل وذلك لاختلاف نوعيات الجرائم واختلاف الظروف فى العصرين.

ولوا أننا اطلقنا تلك الأفلام الجنسية المسعورة على شبابنا وكلها أفلام تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وتحض على الزنا جهارا نهارا ثم اشهرنا حد الرجم فوق الرقاب لظلمنا وما عدلنا. ولا يمكن أن نحول مجتمعا داعرا الى مجتمع فاضل فى يوم وليلة بمرسوم وزارى ولا يمكن أن نحول الهبوط الفنى الى سمو فنى فى لحظة بقانون ولا أن نقلب البرامج الخفيفة الى برامج دسمة جادة فى طرفة عين .. وأنما لابد من التدرج .وفى الفقه شيىء يسمونه شيوع البلوى .. أن البلوى اذا شاعت وعمت فانها تكون مدعاة للاستثناء ومدعاة الى الاصلاح المتدرج. وقديما كان شرب الخمر بلوى عامة وشائعة فى المجتمع القرشى ولهذا نرى أن الأيات التى نزلت بالتحريم نزلت متدرجة .. فى البداية نزلت ايات تقول أن للخمر فوائد وأن لها مضار وأن ضرها أكبر من نفعها .. ثم نزلت الآيات التى تحرم شرب الخمر وقت الصلاة ثم أخيرا نزلت الآيات التى تحرم شرب الخمر أطلاقا. وقد كان سبب هذا التدرج فى التحريم هو شيوع البلوىوكذلك كان الغاء الرق فى الاسلام بالتصفية التدريجية بالعتق واخذ الفدية من الأسير أو اطلاقه دون استرقاق والسبب أن الرق كان هو الاخر بلاء شائعا وكان تحريمه بضربة واحدة باترة معناها خروج ألوف المتعطلين والمتسولين بلا عمل سوى السرقة أو الدعارة .. ولأن الغاء الرق كان أمرا مستحيلا من طرف واحد فقد كان المسلمون والمشركون طرفين فى حرب سجال ولو أن المسلمين امتنعوا عن أسترقاق الأسرى من طرفهم دون معاملة مساوية فى الطرف الاخر لكان هذا الشرع ظلما للمسلمين الذين يقعون اسرى وأرقاء على الطرف الآخر .. ان شيوع البلوى كان دائما عاملا هاما فى التشريع ودافعا الى التدرج فىالاصلاح ..أن الحقيقة التى يجب أن يفطن لها الجميع أن الشباب لم ينحرف وحده ولكن البيئة انحرفت والمناخ الاجتماعى انحرف والفن انحرف والفكر أنحرف والسياسة أنحرفت .. وفى داخل البرلمان وجدنا تجار مخدرات يعتصمون بالحصانة البرلمانية وفيهم زعامات .. اننا بالفعل نعيش فى عصر تاناكا .. وكبار اللصوص هم الأولى بقطع الأيدى ومنتجو الافلام الجنسية هم الأولى بالرجم ومافيا المخدرات وبعضهم فى أعلى المناصب هم الولى بالشنق .. واذا ناديتم بالشريعة فانا اقول نعم وأنا أنادى معكم. ولكنى أسأل أولا .. من يقطع يد من فى هذه الغابة ..ومن منكم لم يرتكب خطيئة ليكون الرامى بأول حجر .. أقول الشريعة واجبة وهى حق ولكن الطريق اليها ليس العقاب وحده ولكن الاصلاح أولا .. لابد من إصلاح اجتماعى يجعل الفضيلة ممكنة قبل أن نعاقب تاركها .. ومن ثم لابد من التدرج والأخذ بمبدأ تطبيق الشريعة على مراحل لأن اصلاح المناخ الاجتماعى والفنى والفكرى والسياسى والاقتصادى لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة .هذه نظرة واقعية أعلم أنها لن تعجب هؤلاء الذين يحلمون بأصلاح كل شيىء بأنقلاب ويتصورون أن المدافع الرشاشة يمكن أن تحسم كل شيىء وتأتى بالشريعة على ظهور الدبابات وأن الفضائل يمكن أن تصنع قهرا وأن الشرف يمكن أن يولد بالرعب.وأقول لهؤلاء ان العنف لا يلد الا النفاق والكذب والتعلق وان الخوف لا يلد السلبية واللامبالاة .. وان القوة لا تلد لا مراكز قوة تأتى ومعها الاذلال والارهاب والتنكيل وليس الحرية والكرامة والعزة. ولقد راينا بأعيننا ماذا يفعل الجالسون فى مراكز القوة . ولن تاتى الشريعة بهذه الوسائل ابدا لأن الشريعة رحمة ومحبة ولا وسائل لتحقيقها الا الرحمة والمحبة. الشريعة هى قمة الحكمة الربانية .. وهى تحتاج الى ذروة الحكمة البشرية فى الفهم وفى التطبيق .. وأى كلام غير ذلك غوغائية ومزايدات حزبية وبالونات دخان للتعمية وأى تطبيق للشريعة بدون فهم لن يكون سوى اجراءات مظهرية ومجرد مرهم سطحى لخراج معبا بالصديدان التقوى هى روح الأمر كله .. وحينما تزداد حرارة الايمان وتسكن القلوب الى ربها لا يعود الواحد منا يختار الا ما اختار له ربه ويصبح هواه فيما شرعه له اللهدون تكلف.وحسن التربية فى البيت والمدرسة والجامعة والمصنع.وحسن القدوة فى الاب والمدرس ورئيس العمل وزعيم الحزب.وحسن الدعوة الى منهج الله بالقول الحسن والسلوك الحسن.كل هذه وسائل أكثر فى تطبيق الشريعة من الزايدات الانتخابية وفى القرآن يعلمنا ربنا قائلا فى آياته ” ” وقولوا للناس حسنا ” .ولن تجدوا واحدا من الخمسة والأربعين مليونا يرفض الحسن من كل شيىء والشريعة هى الحسن من كل شيىء بل هى الأحسن من كل شيىء.


0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Fourni par Blogger.